يقول حافظ إبراهيم في قصيدته :
مَنْ لي بتَربية النِّساء فإنها *** في الشرق علَّةُ ذلكَ الإخفاق
الأمُّ مدرسةٌ إذا أعدَدتَها *** أعدَدتَ شعباً طيِّبَ الأعراق
الأمُّ روضٌ إن تَعَهَّدهُ الحيا *** بالرِيِّ أَوْرقَ أيَّما إيراق
الأمُّ أستاذُ الأساتذةُ الأُلى *** شَغَلَت مآثرُهُم مدى الآفاق
شرح المفردات الصعبة :
- تَعَهًّدهُ : التزم بالعناية به
- أَوْرقَ : ظَهَر وَرقُه
- الأُلى : معناها “الذين” و هو جمع لا مفرد له
للحصول على مختارات من أشعار المدونة مجمعة في كتاب “المنتقى من أبيات واحة الشعر العربي” مع بعض الإضافات التي اختص بها المرجو الضغط على هذا الرابط
سياق الأبيات :
هذه الأبيات مقتطفة من القصيدة التي مطلعها “كَم ذا يُكابِدُ عاشِقٌ وَيُلاقي *** في حُبِّ مِصرَ كَثيرَةِ العُشّاقِ” و التي ذكر فيها حافظ إبراهيم حبه الشديد لمصر و تطرق فيها لمواضيع أخرى من أهمها مكانة الأم في المجتمع و دور النساء الحساس في تحقيق النهضة.
ذاع صيت البيت الشعري “الأمُّ مدرسةٌ إذا أعدَدتَها *** أعدَدتَ شعباً طيِّبَ الأعراق” كثيرا و بلغ الآفاق حتى لا يكاد يجهله أحد و هو من أبلغ و أشهر ما قيل من الشعر في القرن الماضي.
شرح الأبيات :
استهل حافظ ابراهيم هذه الأبيات بصرخة نداء تُنبئ عن أهمية ما سيتطرق إليه و عظمه، فنادى هل في الناس من يتصدر لتربية النساء و يسد هذا الثغر الذي كان سببا مهما في تراجح الحضارة العربية و الإسلامية. لاحظْ هنا عزيزي القارئ أن حافظ إبراهيم قال “تربية النساء” و لم يقل “تعليم النساء” و هذا و الله دليل على عميق فهمه، لأن التربية أعمق من التعليم، فكم من متعلم لا تربية له و لم تنتفع الأمة من علمه في شيء. إن التربية أشمل من التعليم لأنها تحتوي العلم و فوقه الأخلاق التي تهذبه و تؤطره و تجعل صاحبه نافعا لنفسه و للأمة على حد سواء. إن تراجع المنظومة التربوية و الأخلاقية عند النساء كان سببا رئيسيا في ما يرى حافظ ابراهيم للتراجع الحضاري الذي أصاب المشرق بصفة عامة.
و في البيت الثاني يشرح بإسهاب لماذا يرى أهمية تربية النساء و تهذيبهن لأن النساء هن الأمهات اللواتي على أيديهن تنشأ الأجيال. ضرب الشاعر في هذه القصيدة تشبيهات لطيفة للأم فصورها في هذا البيت بأنها مدرسة و ذلك لعظم دورها وتعدد المهام التي تقوم بها، فإذا صلحت تلك المدرسة فإن كل الأجيال التي تتلمذ فيها ستصلُح تبعا لذلك. ثم ذكر حافظ إبراهيم وصفا جميلا لمن تربى على يد أم صالحة فوصفه ب”طيب الأعراق” دلالة على طيبة و أصالة المربي و المربى.
أما في البيت الثالت فيصفها بأنها كالروض الذي يوشك أن يزهر و تورق أشجاره. و كما أن الماء شرط ضروري و أساسي كي يزهر الروض فلا حياة بدون ماء، فقد جعل حافظ إبراهيم الحياء للمرأة بمثابة الماء للروض فمن كانت لا حياء لها فهي أشبه بالميتة فلا يرجى منها ثمرة و لا منفعة. يذكرنا هذا بأبيات أبي تمام الجميلة في الحياء لما قال : “يعيشُ المرءُ ما استحيا بخيرٍ *** و يَبقى العودُ ما بقِيَ اللِّحاءُ” و قد صدق و أصاب.
و في البيت الأخير أعطى الشاعر للأم ما تستحقه من المكانة و التشريف فذكَّر بأنها هي الأستاذة التي علمت كل الأساتذة الذين كبروا و سطع نجمهم في ما بعد. فما منا إلا و تعلم و تربى على يد أمه و هو صغير، فهي معلمته و أستاذته الأولى و لها وفير الفضل في ما يبلغه المرء من نبوغ و تفوق و إنجازات في حياته.
قد صدق الشاعر في أبياته و ما رمى إليه، فمن يا ترى لتربية النساء، أمهات الغد؟