يقول أبو فراس الحمداني في قصيدته :
و إنْ مُتُّ فالإنسانُ لا بُدَّ ميتٌ *** و إنْ طالتِ الأيامُ و انفَسَح العمرُ
و لو سَدَّ غيري ما سَدَدتُ اكتَفوا به *** و ما كانَ يغلو التبرُ لو نَفَقَ الصُفرُ
و نحن أناسٌ لا توسُّطَ عندنا *** لنا الصدرُ دونَ العالمين أو القبر
تهونُ علينا في المعالي نُفُوسُنا *** و من خطبَ الحسناءَ لم يُغلِها المهر
أعزُّ بني الدنيا و أعلى ذوي العُلا *** و أكرمُ من فوق التُرابِ و لا فخر
شرح المفردات الصعبة :
- انفَسَح : طال و امتد
- التبرُ : الذهب الخام قبل أن يُصاغ
- الصُفرُ : النحاس الأصفر
شرح الأبيات :
يفتتح أبو فراس الحمداني هذه الأبيات بمعنى مهم يجب ألا يغيب أبدا عن الإنسان في خضم سعيه في هذه الحياة و هو معنى الفناء. إذ أن الإنسان مهما طال عمره و امتد فلا بد من يوم سيفنى فيه و كذلك يفنى أهله و عشيرته و أحبته و خصومه أيضا. هذه النظرة الفلسفية لمعنى الحياة و الموت الغرض منها دفع التعلق الشديد بالحياة و عدم الخوف من الموت لحتميته و الحرص على الجد في تحقيق ما يطمح الإنسان إليه قبل أن تحين لحظة المغادرة و سرعان ما قد تحين.
و في البيت الثاني ينتقل الشاعر إلى ذكر مكانته بين الناس و القيمة المضافة التي يجلبها وجوده. و استدل على ذلك أن لو كان غيره يصنع مثل صنيعه و ينفع كما هو ينفع إذا لاكتفى الناس بذلك و لما احتاجوا إليه، لكن أحدا لم ينجح في سد الخصاص فكان أبو فراس الحمداني لأجل هذا رجلا دائم الاحتياج إليه بين قومه و عشيرته. في عجز البيت يضرب مثلا لطيفا حيث قارن بين النحاس و الذهب، فلو كان النحاس يسد كل حاجات الناس لما احتاجوا إلى الذهب و لما غلا ثمنه و ارتفع لأن الثمن يحدده قانون العرض و الطلب. أبو فراس يجعل نفسه هنا في منزلة الذهب في المعادن و من دونه في منزلة النحاس مادحا نفسه مفتخرا بها.
ويتوسع في الفخر ليمدح نفسه و قومه بهذا البيت الجميل الرائع الذي جرى على الألسنة فوصف همتهم في الحياة بأنها عالية مرتفعة فهم لا يرضون بالوسط من الأمور. فهم إما أن تكون لهم العزة و الشرف و السؤدد و إما أن يكون لهم الموت في ساحات القتال دفاعا عن شرفهم و مكانتهم أو طلبا للعزة و السؤدد و الرفعة بين العالمين. إن فلسفة أبي فراس الحمداني في الحياة أن ينال كل شيء أو يهلك في سبيل ذلك و لا يبالي.
و يكمل هذا المعنى في البيت الرابع فيصف قومه أنهم يجودون بأرواحهم و دمائهم و كل مايملكون في سبيل نيل العلا و ضرب مثلا ذلك بالرجل الذي يخطب المرأة الحسناء فعليه ألا يتسكثر مهرها فهي حسناء كثير خطابها شديدة المنافسة عليها فلا عجب أن يكون مهرها غاليا. إن كل شيء ثمين في هذه الحياة قد يحتاج تضحيات عظيمة و قد تكون تلك التضحية بالمال و الجهد و قد تكون بحياة المرء نفسها حتى.
و في البيت الأخير يفخر فخرا شديدا بنفسه و قومه، فيصفهم بأنهم أعز أهل الأرض قاطبة في ذلك الزمان و أعلاهم قدرا و رفعة و مكانة و سؤددا، و بأنهم أكرم من يمشي على الأرض في ذلك العصر و هذا فخر شديد عظيم ليس بعده فخر.